منير بولعيش .. آخر الشعراء البوهيمين-محمد الأزرق – طنجة - المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

منير بولعيش .. آخر الشعراء البوهيمين

  الشاعر منير بولعيش    

الى روحك هناك
الشعر بناء لا نعرف من وضع أول لبناته ورغم كل التأويلات المتاحة، بدءا من رثاء آدم لمقتل ابنه فإننا لا نستطيع ختم هذا البناء بشاعر دون غيره ما دامت أرض الشعر تتيح لكل الشجر أن يكبر بغض النظر عن طبيعة الثمار التي تطرحها كل شجرة عن حدة وهذا هو سر بقاء الشعر.
عندما أقرأ ديوان الشاعر منير بولعيش يتهيأ لي أن هناك ذات تصرخ بين دفتي الديوان أو تهمس بكلمات غير مألوفة، تتدفق على رسلها فتدهشني فأقول هذا شعر وأعيد النظر في ما ألفته من تعريف سابق للشعر ويقدر ما يتعرض هذا المفهوم للتعديل مع كل نص لا عهد لي به بقدر ما يتطور الشعر ويتجدد.
ديوان «لن أصدقك أيتها المدينة»1، متفرد في عمارته البنائية الخاصة (الموسيقية، والإيقاعية والاستعارية)، التي تتجاذب الاستقبال وتغريه وتحل ارتباطه بالماضي وتعدد تركيب منطق ذلك الارتباط ليكون الحاضر في قلب السيرورة بأسرها.
يطرح ديوان منير بولعيش تعاقدا جديدا بين القارئ والشاعر، يمكن أن نفهم طبيعة هذا التعاقد إلا إذا شاهدنا رائعة المخرج الأسترالي بيتر وير فيلم «حلقة الشعراء المفقودين» (1989): الذي يحكي قصة أستاذ لمادة الشعر (روبين ويليامز) يعلم طلابه كيفية اكتناه الشعر من الحياة، فالشعر لا يعيش فقط بين أسوار اللغة بل هو متناثر ومنثال انثيالا في كل مناحي الحياة، تلك اللحظة التي مزق فيها الدكتور كيتين مقدمة طويلة مستبدة تفرض مسالك محددة معينة في فهم الشعر، تشبه إلى حد بعيد لحظات المحو المتناثرة في ديوان «لن أصدقك أيتها المدينة»، المحو ليس من أجل المحو وحده ومن أجل كتابة جديدة أيضا.
واكبت الشاعر وهو يكتب قصيدته، وأجد صعوبة بالغة في فصل قصيدة منير كممارسة نصية عن سياق صاحبها، فتلك الرؤية البوهيمية التي اتسم بها طيلة قصيدته هي نفسها التي وسمت حياته، إذ لا يعد الشعر ترفا يمارسه منير خارج أوقات العمل، بل هو العمل نفسه، من أجل إحلال الحب والسلام.
ينزع الشاعر نحو شعرية مفتوحة، متحررة من المماثلة، بل تنحو نحو تخوم المغايرة، فالشاعر بفرادة يولف بين مقهى مدام بورت والكولا ومجنون الورد وزمن الأخطاء وأنشودة المطر كيما لاعب سكرابل، وفي المحصلة نجد قصيدة في ظاهرها متعة خفيفة لكن في باطنها رؤية عميقة للعالم والأشياء، ويبقي منير بولعيش في مغامرته الشعرية الأولى المأسوف على عدم استمرارها، يمارس استكشافا شعريا ويستمتع بكلمات وهي تنذر بتعايشات لا متوقعة ولتجاورات لا تخطر على البال.
قصيدة منير لا تنزع إلى الخروج إلى المحال في لغتها الشعرية، هذا الخروج الذي يعد ديدن القصيدة الحديثة في المغرب، بل تنزع قصائد «لن أصدقك أيتها المدينة» نحو الممكن المتاح في اللغة الشعرية، قصائد منفتحة على الكلما ت المتداولة، على العناوين الرائجة المستثيرة لذاكرتنا، معمار هذه القصائد قوامه الأشياء والرؤى والعالم بمفارقاته،لا يستقي الشاعر من اللغة أمشاج قصيدته بل يمتاح من طنجته الفريدة مخصبات قصيدته، فديوان «لن أصدقك أيتها المدينة»، قصيدة طويلة (بمفاصل/قصائد متعددة).
يتفاعل فيها الحقل الدلالي لطنجة وفيما يلي جرد لعناصره: مقهى مدام بورط، مجنون الورد، زمن الأخطاء، ألن كنسبرغ، جيل البتنكس، دولاكروا، زنقة الشياطين، الحافة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، ابن بطوطة، مقهى Petit Berlin، Teatro Cervantes، الطين جاء، رياح الشرقي، ساحة الأمم، مدافع سور المعكازين، طنجيس، وادي اليهود، قوافل الهيبيين، بار البريد، Le journal de Tanger، الجبل الكبير، القديس سيدي المصمودي، بحر اشقار، حدائق المندوبية، سيدي بوعراقية، مقهى باريس، السوق الداخل، الخبز الحافي، رأس المصلى، Tanjaz، دينزبار، Librairie des colomes.
أي أن منير لجأ إلىحيلة فنية مقنعة، وهل ثمة أفضل من هذه العناوين الدالة لبناء طنجة الافتراضية أو طنجة الهاربة مثل ضوء، أو طنجة الوجه البوهيمي الجميل الذي عزته الخدوش، يختلط الحقل الدلالي لطنجة بحقل دلالي آخر يعنى بالإنسانية ومعالمها وحركاتها الكبرى فنجد كلمان من قبيل: الهيبيين، سجائر جيتان، آلهة الأولمب، الإلياذة، أنشودة المطر، الغجر، ربيع براغ، 1968...
ومن تم تصير طنجة الهاربة أو الافتراضية جسر عبور إلى العالم والإنسانية جمعاء، ليبقى الديوان ورشة شعرية مفتوحة على أفق عدة وإمكانات عدة لصياغة طنجة لا كما هي، بل كما يحلم بها منير، وهذا ينسجم مع ما يذهب إليه عنوان العتبة الأولى للولوج إلى ديوان «لن أصدقك أيتها المدينة».
في قصيدة حكمة (ص7-8-9)
يقول الشاعر:
حسنا...
منذ البداية
وبالضبط: بعد أن أرسم
على كفك قبلة الحبيب
سأختار نهج الوضوح
حسنا...
قبل أن يوافينا نادل Madame porte
بالكولا
سأهمس لك بهكذا حكمة:
هذا العالم يقتسمه رجلان:
مجرم حرب وغنيها
لا تتوقعي من الشعراء
ومني بالخصوص
سوى أنشودة المطر
أنشدها لك كلما
دمرك الشتاء:
مطر...
مطر...
مطر...
إسوة بشعراء كثيرون أنتجوا خطابات نقدية موازية لنصوصهم الشعرية(أدونيس، بنيس)، أطلق الشاعر منير بولعيش بيانه2، استهله بعبارتين:
عمتم نشيدا أيها الأصدقاء
عمتم أحلاما أيها الشعراء
واختتمه بكلام بالغ في الفردانية:
لهم مركزهم ولنا هامشنا...
لهم تكتلهم ولنا حريتنا...
لهم تراتبيتهم ولنا تشاركنا...
لهم قممهم ولنا هاويتنا...
وبين المستهل والمختتم أطلق الشاعر العنان لتصوره حول الشعر تصورا لم يكن يختلف كثيرا عن تصور الدكتور كيتين حلقةالشعراء المفقودين)، دعا في هذا البيان إلى التجديد وتدمير سلطة قادة الشعر التاريخيين. «اليوم وأكثر من أي وقت سابق نحن هنا كي نركض جميعا ضد رغباتنا الخاصة، ضد رغباتنا السرية في أن نتصنم أو نتوثن.. في أن نتشبه بقادة الشعر التاريخيين، وننتج سلطتهم التي تمارس غالبا ضدنا في أن ننجر إلى أفخاخهم ونحول الحرف/الشعر/الحلم... إلى ماركات إشهارية مسجلة ومكرسة لا بفعل الإبداع وحده، بل أيضا ببطريركية الممارسة وسلطة الإقصاء...».
مقتنعا أيما اقتناع بمقولة فولتير المأثورة: «كن رجلا ولا تتبع خطواتي»، وهي مقولة يظل الشعراء أحوج ما يكونون إلى تمثلها والعمل بها، لكي يتحرروا بشكل نهائي من التأثيرات الأبوية ودعاة الوقوف عند شكل من الأشكال اليابسة، سلفية كانت أو معاصرة.

------------------------------------------------
1- لن أصدقك أيتها المدينة . منير بولعيش. منشورات السليكي إخوان . 2009 طنجة، المغرب
2- نشر البيان بجريدة طنجة عدد 3420، وقتد شارك في تحرير البيان محمد الأزرق



 
  محمد الأزرق – طنجة - المغرب (2011-07-26)
Partager

تعليقات:
د. فاضل سوداني /الدنمارك ـ العراق 2011-07-28
شكرا للاستاذ محمد الازرق على هذه المقالة الصادقة في العرض والتحليل ،ومن خلال هذا يمكن ان نلمس شفافية واقتناص الفكرة وما خلفها لقصيدة منير بولعيش فهو الذي كتب الشعر وقصيدة النثر حقا ، وكان متمكنا من جانب هام جدا وهو تحول الواقع الى شعر اضافة الى تثويره فهو الشاعر الهيبي بالممارسة والقصيدة وكان يهمه ان يجعل القصيدة هي كل تفكيره فصمته الدائم وهدوءه الضاهري ينبؤ عن هيجان داخلي لكن شعري ، وكنت الاحظ هذا الامر عندما يكتب قصيدة جديد فانه يحول لحظته الساكنة الى فرح وصخب سينعكس على سلوكه لمدى معين حتى كتابة القصيدة الجديدة . لقد نجح منير وكان امامه سركون بولص في تحويل الواقع الى حلم شعري وهذه نقطة مهمة . شكرا بصدق لقد شعرت بفرح خاص لان الازرق الجميل كتب بهذه الجدية والرصانة والاخلاص عن شاعر صديق فقدناه جميعا ولكن الشعر المغربي بالتاكيد اكثرنا فقدانا لقصيدة المتميزة والمتفردة كقصيدة منير بولعيش .ايها الازق سنحتفل بما كتبته قريبا عندها يمكن ان نسمع ضحكة منير الشاعر ـ الطفل المتمرد تتردد في العالم السري ـ الاخر اي في عالم طنجة الاخر.
البريد الإلكتروني : fasoudani6@hotmail.com

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

منير بولعيش .. آخر الشعراء البوهيمين-محمد الأزرق – طنجة - المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia